الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***
{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8)} قوله تعالى: {عَبَسَ وتولى * أَن جَاءَهُ الأعمى} سَبَبُها: «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يدعُو بعضَ صَنَادِيدِ قريشٍ ويقرأ عليه القرآن ويقول له: هل ترى بما أقولُ بأساً، فكان ذلك الرجلُ يقول: لا والدمى يعني الأصْنَام؛ إذ جَاء ابنُ أم مكتُومٍ؛ فَقَالَ: يا رسول اللَّه! اسْتَدْنِنِي وَعَلِّمْنِي مما علَّمَك اللَّهُ؛ فكان [في] ذلك كلِّه قطعٌ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم مع الرَّجُلِ، فلَما شَغَبَ عليه ابنُ أُم مكتوم عَبَسَ صلى الله عليه وسلم وأعْرَضَ عنه»؛ فنزلتِ الآيةُ، قال سفيانُ الثوريّ: فكَانَ بعدَ ذلك إذَا رأَى ابنَ أم مكتومٍ قال: مَرْحَباً بمن عَاتَبَنِي فيه ربِّي عز وجل وبَسَطَ له رداءَه واسْتَخْلَفَه على المدينةِ مرتين، * ت *: والكافرُ المشارُ إليه في الآيةِ هو: الوليدُ بن المغيرة؛ قاله ابنُ إسْحَاق، انتهى، ثم أكَّد تعالى عَتْبَ نبيه بقوله: {أَمَّا مَنِ استغنى} أي بمالِه، {فَأَنتَ لَهُ تصدى} أي: تَتَعَرَّضُ.
{وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)} وقوله: {وَهُوَ يخشى} أي: يخشَى اللَّه، {فَأَنتَ عَنْهُ تلهى} أي تَشْتَغِلُ، تَقُولُ لَهِيتُ عن الشيء ألْهَى إذا اشْتَغَلْتُ عنه، ولَيْسَ من اللَّهْوِ، وهذه الآيةُ السببُ فيها هذا؛ ثم هِي بَعْدُ تَتَنَاولُ مَنْ شَارَكَهم في هذه الأوصافِ، فحمَلةُ الشَّرْعِ والعِلم مخاطبونَ بتقريبِ الضَّعِيفِ من أهلِ الخير وتقديمِه على الشريفِ العارِي من الخيرِ، مثلَ ما خُوطِبَ بهِ النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورةِ، قال عياضٌ: وليسَ في قوله تعالى: {عَبَسَ وتولى} الآيةَ، ما يَقْتَضِي إثباتَ ذَنْبٍ للنبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه خَالفَ أمْرَ ربِّه سبحانه، وإنَّما في الآيةِ الإعلامَ بحال الرجلينِ، وتَوْهِينِ أَمْرِ الكافرِ، والإشارةُ إلى الإعراضِ عنه، انتهى، قال السهيلي: وانظرْ كيفَ نزلتِ الآيةُ بلفظِ الإخبارِ عن الغائبِ فقال: {عَبَسَ وتولى} ولم يقل: عَبَسْتَ وتولَّيْتَ، وهذا يُشْبِهُ حال العاتِب المُعْرِضِ، ثم أقبل عَلَيْهِ بمواجَهَةِ الخطابِ فقال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} الآية، عِلماً منْه سبحانه أنَّه لَمْ يَقْصِدْ بالإعراضِ عن ابن أم مكتوم إلا الرغبةَ في الخيرُ ودخولِ ذلكَ المشركِ في الإسلام؛ إذ كان مثلُه يُسْلِم بإسلامِه بَشَرٌ كثيرٌ، فكلَّمَ نبيَّهُ حينَ ابتدأَ الكلامَ بِمَا يشبه كلامَ المُعْرِضِ عنه العاتِب له، ثم واجَهَهُ بالخطابِ تأنيساً له عليه السلام، انتهى، ثم قال تعالى: {كَلاَّ} يا مُحَمَّدُ، ليسَ الأَمْرُ كما فعلتَ، إنَّ هذه السُّورَةَ أو القراءةَ أو المعاتبةَ تَذْكِرَةٌ، وعبارةُ الثعلبي: إن هي السورةَ، وقيل: هذه الموعظةَ، وقال مقاتلٌ: آياتُ القرآن تذكرةٌ، أي: مَوْعِظَةٌ وتَبْصِرةٌ للخلقِ، {فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ} أي: اتَّعظَ بآي القرآن وبما وعظتُكَ وأدَّبتُكَ في هذه السورةِ، انتهى. * ص *: {ذَكَرَهُ} ذكَّرَ الضمير؛ لأنَّ التذكرةَ هي الذكرُ، انتهى.
{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} وقوله تعالى: {فَى صُحُفٍ} متعلقٌ بقولهِ: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} وهذا يؤيد أن التذكرَة يراد بها جميعُ القرآن، والصحف هنا قيل إنه اللوحُ المحفوظُ: وقيلَ صحفُ الأنبياءِ المنزلةُ. قال ابن عبَّاسٍ: السَّفَرَةُ هم الملائِكَةُ، لأنَّهم كَتَبةٌ يقال: سَفَرْتُ، أي: كتبتُ، ومنه السِّفْرُ، وقال ابن عباس أيضاً: الملائكةُ سَفَرةَ لأنهم يَسْفِرُونَ بينَ اللَّه وبين أنبيائه، وفي البخاري: سَفَرةُ الملائكةِ [واحدُهم سَافِرٌ]، سَفَرَتْ أصْلَحَتْ بينهم وجُعِلَتِ الملائكةُ إذَا نَزَلَتْ بوحي اللَّه عز وجل وتأديته كالسَّفِيرِ الذي يُصْلِح بَيْنَ القوم، انتهى، قال * ع *: ومن اللفظةِ قول الشاعر: [الوافر] وَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بَيْنَ قَوْمِي *** وَمَا أسعى بِغِشٍّ إنْ مَشَيْتُ والصُّحُفُ على هذا: صحفٌ عند الملائِكة أو اللوحُ.
{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)} وقوله تعالى: {قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ}: دعاء على اسْمِ الجنسِ، وهو عُمُومٌ يرادُ به الإنسانُ الكافِرُ، ومعنى {قُتِلَ}: أي: هو أهلٌ أنْ يُدْعَى عليْه بهذا، وقال مجاهد: {قَتِلَ} معناه: لُعِنَ وَهَذَا تَحَكُّمٌ * ت *: ليسَ بتحكمٍ وقد تقدم نحوُه عن غيرِ واحدٍ. وقوله تعالى: {مَا أَكْفَرَهُ} يحتملُ معنى التعجبِ، ويحتملُ الاستفهامَ توبيخاً، وقيلَ: " الآيةُ نَزَلَتْ في عُتْبَةَ بنِ أبي لهبٍ، وذلك أنَّه غَاضَبَ أبَاه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسْلَم ثم إن أباه اسْتَصْلَحَه وأعطَاه مالاً وجهَّزَه إلى الشامِ، فبعث عتبةُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنِّي كافرٌ بربِّ النَّجْمِ إذَا هوى فدعَا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهمَّ ابْعَثْ عَلَيْهِ كَلْبَكَ حَتَّى يَأْكُلَهُ» "، ثم إن عُتْبَةَ خَرَجَ في سُفْرَة فجاءَ الأسَدُ فأكلَه من بينْ الرُّفْقَةِ. وقوله تعالى: {مِنْ أَىِّ شَئ خَلَقَهُ} استفهامٌ على معنى التقرير على تفاهةِ الشيءِ الذي خُلِقَ الإنسانُ منه، {فَقَدَّرَهُ} أي جعَلَه بقَدَرٍ وَحَدٍّ معلومٍ، {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} قال ابن عباس وغيره: هي سبيلُ الخُرُوجِ من بطن أمِّهِ، وقال الحسنُ، ما معناه أن السبيلَ هي سبيلُ النظرِ المؤدِّي إلى الإيمانِ. وقوله {فَأَقْبَرَهُ} معناه: أمَر أنْ يُجْعَلَ له قبرٌ، وفي ذلك تكريمٌ له؛ لِئَلاَّ يطرحَ كسائرِ الحيوان. وقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ} يريدُ: إذا بَلَغَ الوقتَ الذي قَدْ شاءَه؛ وهو يومُ القيامةِ، و{أَنشَرَهُ} معناه: أحْيَاه.
{كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)} وقوله تعالى: {كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ} أي لم يَقْضِ ما أمره، ثم أمَرَ اللَّهُ تعالى الإنسانَ بالعبرةِ والنظرِ إلى طَعامِه والدليل فيهِ وكيفَ يسَّره له بهذهِ الوَسَائِط، والحَبُّ جمعُ حَبَّةٍ بفتحِ الحاءِ، وهو كل ما يتخذُهُ الناسُ ويربونه، والحِبَّةُ: بكسرِ الحاءِ كُلَّ مَا يَنْبُتُ من البزُور لا يُحْفَلُ به، ولا هو بمتَّخَذٍ، والقَضْبُ قِيلَ هي الفِصْفِصَة وهذا عندي ضعيف؛ لأن الفِصْفِصَةَ للبهائِم وهي داخلةٌ في الأبِّ؛ والذي أَقول به أن القضْبَ هنا هو كلُّ ما يقْضَبُ ليأكُلَه ابنُ آدم غَضَّا من النباتِ كالبقُولِ والهِلْيُونِ ونحوه؛ فَإنَّه من المَطْعُوم جِزءٌ عظيمٌ ولاَ ذِكْرَ له في الآية إلاَّ في هذه اللفظةِ، والحديقةُ: الشجَرُ الذي قد أُحْدِقَ بجدار ونحوِه، والغُلْبُ: الغِلاظُ الناعِمَةُ، والأبُّ المَرْعَى والكلأ؛ قاله ابن عباس وغيره، وقد توقَّفَ في تفسيرِه أبو بكرٍ وعمرُ رضي اللَّه عنهما و{متاعا}: نصْبٌ على المصدرِ، والمعنى: تَتَمَتَّعُونَ به أنتم وأنعامُكم؛ فابن آدم في السَّبْعَةِ المذكورةِ، والأنْعَامُ في الأَبِّ، و{الصاخة}: اسمٌ من أسماءِ يوم القيامة. * ص *: قالَ الخليلُ: الصَّاخَّةُ صَيْحَةٌ تَصُخُّ الآذانَ صَخَّا، أي: تُصِمُّها لشدةِ وقْعَتِها، انتهى.
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)} وقوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ} الآية، قال جمهورُ الناس: إنما ذلكَ لشدةِ الهَوْلِ كلٌ يقولُ نَفْسِي نَفْسِي، وقيل: فرارُهم خوفاً من المُطَالَبَاتِ، {لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} عن اللقاءِ معَ غيرهِ، ثم ذكر تعالى اختلافَ الوجوهِ من المؤمنينَ الواثقين برحمةِ اللَّه؛ حين بَدَتْ لهم تباشيرُها، ومن الكفارِ حينَ عَلاَها قَتَرُهَا، و{مُّسْفِرَةٌ} معناه: نَيِّرةٌ بادٍ ضَوْءُهَا وسرورُها، والغَبْرَة التي على الكفرة: هي من العُبُوسِ كما يُرَى على وجهِ المهمومِ والميِّتِ والمرِيض شبهُ الغُبَارِ، * ص *: والقَتَرُ سوادٌ كالدُّخَانِ، قال أبو عبيدةَ: هو الغُبار، انتهى، ثم فسَّرَ سبحانَه أصحابَ هذهِ الوجوهِ المُغْبَرَّةِ بأنهم {الكفرة الفجرة}.
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} قوله سبحانه: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} هذه كلُّها أوصَافُ يومِ القيامةِ، وتكويرُ الشمسِ هو أن تُدَارَ كما يُدَارُ كَوْرُ العمامةِ ويُذْهَبُ بها إلى حيثُ شَاءَ اللَّه تعالى، وعبَّر المفسرونَ عن ذلك بعباراتٍ؛ فمنهم مَنْ قال: ذهب نورُها؛ قاله قتادة، ومنهم من قال: رُمِي بها؛ قاله الربيع بن خثيم وغير ذلك مما هو أسماءٌ توابعُ لتكْويرهِا،، وانْكِدَارُ النجومِ هو انْقِضَاضُها وهبوطُها من مواضِعها، وقال ابن عباس: انكدرتْ: تغيَّرَتْ من قولهم مَاءٌ كَدِرٌ و{العشار}: جمع عُشَرَاءَ وهي الناقة التي قَدْ مَرَّ لحملِها عَشَرَةُ أشهرٍ، وهي أنْفَسُ مَا عِنْدَ العَرَبِ، وإنما تُعَطَّلُ عند أشدِّ الأهْوَال.
{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)} {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} قال أُبَيُّ بن كعب وابن عباس وغيرهما: معناه أُضْرِمَتْ ناراً، كما يُسْجَرَ التَّنُّورُ، ويحتملُ أنْ يكونَ المعنى مُلِكَتْ وقُيِّدَتْ، فتكونُ اللفظةُ مأخوذةً من سَاجُورِ الكَلْبِ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «سُجِرَتْ» بتخفيفِ الجيمِ، والباقون بتشديدها، وتزويجُ النفوسِ: هو تَنْوِيعُها؛ لأن الأزواجَ هي الأنْواعُ، والمعنى: جَعْلُ الكافرِ مع الكافرِ والمؤمِنِ معَ المؤمِنِ، وكلِّ شكلٍ مع شكلِه؛ رواه النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقاله عمرُ بن الخطاب وابن عباس؛ وقال: هذا نظيرُ قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثلاثة} [الواقعة: 7] وفي الآيةِ على هذا حضُّ عَلَى خَليلِ الخيرِ، فقد قال عليه السلام: " المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " وقال: " فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ "، وعبارةُ الثعلبيِّ: قال النعمانُ بْنُ بَشِيرٍ: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ}، قَالَ الضُّرَبَاء: كُلُّ رَجُلٍ مَعَ كُلِّ قَوْمٍ كَانُوا يَعْمَلُونَ عَمَلَه، انتهى، وقال مقاتل بن سُلَيْمَانَ معناه: زوجتْ نُفُوسُ المؤمنينَ بزوجاتهنَّ من الحُورِ، وغيرِهِنَّ. وقوله تعالى: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ} الموؤودةُ اسم معناه المُثْقَلُ عليها بالتُّرَاب، وغيرِه حتى تموتَ؛ وكان هذا صنيعُ بعضِ العَرَبِ ببناتِهم يدفِنُونَهن أحياءً، وقرأ الجمهور: «سِئلت» وهذا على جهةِ التوبيخِ للعربَ الفاعلينَ ذلك؛ واستدلَّ ابن عَبَّاس بهذه الآيةِ على أنَّ أولادَ المشركينَ في الجَنَّةِ، لأنَّ اللَّهَ قَدِ انتصر لَهُمْ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ. {وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ} قيل: هي صُحُفُ الأَعْمَالِ، وقيل: هي الصُّحُفُ التي تَتَطَايَرُ بالأَيْمَانِ والشَّمائلِ، والكَشْطُ: التقشيرُ وذلك كما يُكْشَطُ جلدُ الشاةِ حينَ تُسْلَخُ، وكَشْطُ السَّماءِ هُو طَيُّها كَطَيِّ السِّجِلِّ، و{سُعِّرَتْ} معناه: أُضْرِمَتْ نارُها، وأزلفت الجنة معناه: قُرِّبَتْ ليدخلَها المؤمنونَ، قال الثعلبي: قُرِّبَتْ لأهلها حتى يرونها، نظيرُه، {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق: 31]. {عَلِمَتْ نَفْسٌ} عندَ ذلك {مَّا أَحْضَرَتْ} من خيرٍ أو شرٍ؛ وهو جوابٌ لقولهِ {إِذَا الشمس} وما بَعْدَها، انتهى.
{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)} وقوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس} لا إمَّا زائدةٌ وإما أنْ تكونَ رَدّاً لِقَوْلِ قريشٍ في تكذيبِهم نبوةَ نبينا محمدٍ عليه السلام، ثُمَّ أَقْسَمَ تعالى بالخُنَّسِ الجوارِ الكنَّسِ، وهي في قولِ الجمهور: الدَّرَارِي السَّبْعَةُ: الشَّمْسُ والقَمَرُ وزُحَلُ وعُطَارِدُ والمرِّيخُ والزُّهْرَةُ والمُشترِي، وقال عليّ: المرادُ الخمسةُ دونَ الشمسِ والقمر؛ وذلك أنّ هذه الكواكبَ تَخْنِسُ في جَرْيها أي: تَتَقَهْقَرُ فيما تَرى العينُ، ويه جَوارٍ في السماءِ، وهي تَكْنِسُ في أَبراجها أي: تَسْتَتر، الثعلبي: وقال ابن زيدِ تَخْنِسُ؛ أي: تَتَأَخَّرُ عَنْ مَطَالِعِها كلَّ سَنَة، وتَكْنِسُ بالنَّهار، أي: تستترُ فلاَ تُرَى، انتهى، وعَسْعَسَ الليلُ في اللغةِ إذا كَان غَيْرَ مُسْتَحْكَمِ الإظْلاَمِ، قال الخليل: عَسْعَسَ الليلُ: إذا أَقْبَلَ وأَدْبَرَ، وقال الحَسَنُ: وقَعَ القَسَمُ بإقبالهِ، وقال ابن عباسٍ وغيره: بلْ وَقَعَ بإدبارهِ، وقال المبرد: أقسَمَ بإقباله وإدباره معاً، وعبارةُ الثعلبي: قالَ الحسنُ عَسْعَسَ الليلُ: أقْبَلَ بظلامِه، وقال آخرون: أدْبَرَ بظلامِه، ثم قال: والمعنيانِ يَرْجِعَانِ إلى معنًى واحدٍ، وهو ابتداءُ الظلامِ في أوله وإدباره في آخرهِ، انتهى،، وتنفَّسَ الصبحُ، اتَّسَعَ ضوءهُ، والضميرُ في «إنه» للقرآن، والرسولُ الكريمُ في قولِ الجمهور؛ هو جبريلُ عليه السلام وقال آخرون: هو النبي صلى الله عليه وسلم في الآيةِ كلِّها، والقولُ الأول أصحُّ، و{كَرِيمٍ} صفةٌ تَقْتَضِي رَفْعَ المذَامِّ، و{مَكِينٍ} معناه: له مكَانَة ورِفْعَة، وقال عياض في «الشفا» في قوله تعالى: {مطاع ثَمَّ أَمِينٍ}: أكثرُ المفسرينَ عَلى أنَّهُ نبيُّنَا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، انتهى، قال * ع *: وأجمعَ المفسرونَ على أن قولَه تعالى: {وَمَا صاحبكم} يرادُ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، والضمير في رآه لجبريلَ عليه السلامُ وهذه الرؤيةُ التي كانَتْ بعْدَ أمْرِ غارِ حِراءٍ، وقيل: هي الرؤية التي رآه عند سِدْرَةِ المنتهى.
{وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ} بالضادِ بمعنى: بِبَخِيلِ تَبْلِيغ مَا قِيل لهُ؛ كما يَفْعَلُ الكاهِنُ حين يُعْطى حُلْوَانه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: «بظنين» بالظاءِ، أي: بمتَّهَمٍ، ثم نَفَى سبحانَهُ عن القرآن أنْ يكونَ كلامَ شيطانٍ على ما قالتْ قريشٌ، و{رَّجِيمٍ} أي: مرجُوم. وقوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} توقيفٌ وتقريرٌ والمعنى: أين المذهبُ لأحَدٍ عن هذهِ الحقائقِ والبيانِ الذي فيه شفاءٌ، {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ} أي: تذكرةٌ، * ت *: رَوَى الترمذيُّ عن ابنِ عمرَ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَنْ سَرَّه أنْ يَنْظُرَ إلى يومِ القِيَامَةِ كأنَّه رَأْيُ عينٍ؛ فَلْيَقْرَأْ {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} و{إِذَا السماء انفطرت}، و{إِذَا السماء انشقت} " قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ، انتهى.
{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)} قوله تعالى: {إِذَا السماء انفطرت} أي: انشقَّتْ، {وَإِذَا الكواكب انتثرت} أي: تساقَطَتْ، {وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ} قيل: فُجِّرَ بعضُها إلى بعضٍ، ويحتملُ أنْ يكونَ تَفَجَّرتْ من أعاليها، ويحتملُ أن يكون تفجيرَ تفريغٍ من قيعَانِها فَيُذْهِبُ اللَّهُ ماءَها حيث شاء، وبكلٍ قيل، وبعثرةُ القبورِ: نبشُها عن الموتى.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)} وقوله سبحانه: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} هو جوابُ {إِذَا} و{نَفْسٌ} هنا اسمُ جنسٍ، وقال كثيرٌ من المفسرينَ في معنى قوله: {مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} إنها عبارةٌ عن جميع الأعمالِ من طاعة أو معصية. {ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} رُوِيَ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَهَا، فقال: «غَرَّهُ جَهْلُهُ»، فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَرْحَمَهُ بِعِبادِهِ، قال الثعلبيُّ: قال أَهْلُ الإشارةِ: إنَّما قَالَ: {بِرَبِّكَ الكريم}، دونَ سائر أسمائِه تعالى وصفاته، كأنه لَقَّنَهُ جَوَابَهُ؛ حتى يقولَ: غَرَّنِي كَرَمُكَ، انتهى، وقرأ الجمهور: «فَعَدَّلَكْ» " وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نَظَر إلى الهلالِ؛ قال: «آمنتُ بالذي خلقَك فسوَّاك فَعَدَلَك» " وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بتخفيفِ الدال، والمعنى عَدَّلَ أعضَاءَك بعضَها ببعضٍ، أي: وازنَ بينها.
{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} وقوله تعالى: {في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} ذهبَ الجمهورُ إلى أن «في» متعلِّقة ب«ركَّبك»، أي: في صورةٍ حسنةٍ أو قبيحةٍ، أو سليمةٍ، أو مشوهةٍ، ونَحْو هذا، و«ما» في قوله: {مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ} زائِدَةٌ فيها معنَى التأكيد، قال أبو حيان: {كَلاَّ} رَدْعٌ وزَجْرٌ، انتهى، والدِّينُ هنا يحتمل أن يريدَ الشرعَ، ويحتملُ أن يريدَ الجزاءَ والحسابَ، وباقي الآيةِ واضِحٌ لِمُتَأَمِّلِهِ.
{يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)} وقوله تعالى: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين} أي: يوم الجزاءِ. وقوله تعالى: {وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} [قال جماعة: معناه: ما هم عنها بغائبين] في البَرْزَخِ، وذلك أنهم يرونَ مقاعِدَهم من النارِ غَدْوَةً وعشيَّةً؛ فهم لم يزالُوا مشاهدينَ لَها؛ نسألُ اللَّه العافيةَ في الدارينِ بجُودِه وكرمِه، ثم عظَّم تعالى قدرَ هولِ ذلكَ اليومِ بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين}.
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)} قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} الآية، المُطَفِّفُ الذي يُنْقِصُ الناسَ حُقُوقَهم، والتطفيفُ: النُّقْصَانُ، أصله من الشيء الطفيف، وهو النَّزْرُ، والمطفِّفُ إنما يأخذ بالميزانِ أو بالمكيال شَيْئاً خفيفاً، و{اكتالوا عَلَى الناس} معناه قَبَضُوا منهم، و{كَالُوهُمْ} معناه: قَبَّضُوهم، و{يُخْسِرُونَ} معناه: يُنْقِصُونَ.
{أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} وقوله سبحانه: {أَلا يَظُنُّ} بمعنى: يَعْلَمُ ويتحقق، وقال * ص *: {أَلا يَظُنُّ} ذَكَر أبو البقاء أن «لا» هنا هي النافيةُ دَخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ، وليستْ «أَلاَ» التي للتنبيهِ والاستفتاح؛ لأن مَا بَعْدَ «أَلاَ» التنبيهيَّةِ مُثْبَتٌ وهو هنا منفيٌّ، انتهى،، وقيامُ الناس لربِ العالمينَ يومئذٍ، يختلف الناسُ فيه بحَسْبِ منازِلهم، ورُوِيَ أنه يُخَفَّفُ عن المؤمنِ حتى يكونَ على قَدْرِ الصلاةِ المكتوبةِ، وفي هذا القيام هو إلجامُ العَرَقِ للناسِ؛ كما صرَّح به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ، والناسُ أيضاً فيه مختلفون بالتخفيفِ والتشديدِ، قال ابن المباركِ في «رقائِقه»: أخبرنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عن أبي عثمانَ النهدي عن سلمان، قال: تدنى الشمسُ من الناسِ يومَ القيامةِ حتى تكونَ من رُؤوسهم قَابَ قوسٍ أو قابَ قوسَينِ فتُعْطي حرَّ عَشْرَ سنين؛ وليسَ على أحد يومئِذ طِحْرِبة ولا تُرَى فيه عورةُ مؤمِنٍ ولا مؤمنةٍ، ولا يَضّرُّ حرُّها يومئِذٍ مؤمناً ولا مؤمنَة، وأما الآخرون؛ أو قال الكفارُ فَتَطْبُخُهُمْ، فإنما تقولُ أجوافُهم غَقْ غَقْ، قال نعيم: الطحربةُ: الخِرْقة انتهى، ونحوُ هذا للمحاسبي قال في «كتاب التوهُّم»: فإذَا وَافَى الموقفُ أهْلَ السمواتِ السبعِ والأرضينَ السبعِ؛ كُسِبَتِ الشمسُ حرَّ عَشْرَ سنينَ، ثم أدْنيتْ من الخلائقِ قَابَ قوسٍ أو قابَ قوسينِ، فَلاَ ظِلَّ في ذلك اليوم إلا ظلُّ عرشِ ربِّ العالمينَ، فكم بينَ مستظلِّ بظل العرشِ وبين واقفٍ لحرِّ الشمسِ قد أصْهَرَتْه؛ واشتدَّ فيهَا كَرْبُه وقلقُه، فتوهَّمْ نفسَك في ذلكَ الموقفِ؛ فإنك لا محالةَ واحدٌ منهم، انتهى، اللَّهُمَّ، عَامِلْنَا بِرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ في الدَّارَيْنِ، فَإنَّهُ لاَ حَوْلَ لَنَا وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ.
{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)} وقوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كتاب الفجار...} يعني: الكفارَ وكتابُهم يراد به الذي فيه تَحصيلُ أمرهم، وأفعالِهم، ويحتمل عندي أن يكونَ المعنَى وعِدَادُهُمْ وكِتَابُ كونِهم هو في سجينٍ؛ أي: هنالِكَ كُتِبُوا في الأزلِ، واختُلِفَ في {سِجِّينٍ} ما هو؟ والجمهورُ أن سجيناً بناءُ مبالغة من السَّجْن، قال مجاهد: وذلك في صخرة تحت الأرض السابعة.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} تعظيمٌ لأمر هذا السِّجِّينِ وتعجيبٌ منه، ويحتملُ أنْ يكونَ تقريرَ اسْتِفْهامٍ، أي: هذا مما لم تكنْ تعلمُه قَبلَ الوحيِ، و{كتاب مَّرْقُومٌ} على القول الأولِ: مرتفعٌ على خبر «إنَّ» وعلى القولِ الثاني مرتفعٌ على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوف تقديرُه: هو كتاب مرقوم، ويكون هذا الكلامُ مفسِّراً ل {سِجِّينٍ} ما هو؟، و{مَّرْقُومٌ} معناه: مكتوبٌ لهم بِشَرٍّ، وباقي الآية بَيِّنٌ، ثم أوجَبَ أنَّ مَا كَسَبُوا من الكفرِ والعُتُو قَدْ {رَانَ على قُلُوبِهِمْ} أي: غطى عليها؛ فهُمْ مع ذلك لا يُبْصِرُون رشداً، يقال: رَانَتِ الخمرُ على قلبِ شاربِها، ورَانَ الغَشْيُ على قلبِ المريضِ، وكذلك الموتُ، قال الحسنُ وقتادة: الرّينُ الذَّنبُ على الذنبِ حتى يموتَ القلبُ، ورَوَى أبو هريرةَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ الرجُلَ إذا أذْنَبَ نُكِتَتْ نكتةٌ سَوْدَاءُ في قلبهِ، ثم كذلك حتَّى يَتَغطَّى فذلكَ الرانُ الذي قال اللَّه تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} "، قال الفخرُ: قال أبو معاذ النَّحْوي: الرّينُ سَوَادُ القلبِ من الذنوبِ، والطَّبْعُ أن يُطْبَعَ على القلبِ، وهو أشَدُّ من الرينِ، والإقْفَالُ أشدُّ من الطبعِ؛ وهو أن يُقْفَلَ على القلبِ، انتهى، والضميرُ في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ} للكفارِ أي: هم محجوبونَ لا يَرَوْنَ ربَّهم، قال الشافعي: لما حَجَبَ اللَّهُ قوماً بالسَّخْطِ دَلَّ عَلى أن قوماً يرَوْنَهُ بالرِّضَى، قال المحاسبي رحمه اللَّه في كتابِ «توبيخ النفس»: وينبغِي للعبدِ المؤمنِ إذا رأى القسوةَ من قلبه أن يعلم أنها من الرّينِ في قلبه فيخافُ أن يكونَ اللَّهُ تعالى لمَّا حَجَبَ قلبَه عنه بالرّينِ والقسوةِ أنْ يحجبَه غَداً عن النظرِ إليه؛ قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} إحداهُما تتلو الأخرى؛ ليس بينهما معنًى ثالثٌ، فإنْ اعترضَ للمريدِ خَاطِرٌ من الشيطانِ ليقْتَطِعَه عن الخوفِ من اللَّه تعالى، حتى تحلَّ بهِ هاتانِ العقوبتانِ فَقَال إنما نَزَلَتَا في الكافرينَ؛ فليقلْ فإنَّ اللَّهَ لم يؤَمِّنْ منهما كثيراً مِنَ المؤمنينَ، وقد حذَّر سبحانَه المؤمنينَ أن يُعَاقِبَهُم بما يُعَاقِبُ به الكافرين؛ فقال تعالى: {واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين} [آل عمران: 131] إلى غير ذلكَ من الآيات، انتهى، ولما ذَكَرَ اللَّهُ تعالى أمْرَ كتابِ الفجار، عَقَّبَ ذلكَ بذِكْرِ كِتَابِ ضدِّهِم؛ ليبيِّنَ الفرقَ بين الصِّنْفَيْنِ، واخْتُلِفَ في المَوضِع المعروفِ ب {عِلِّيِّينَ} ما هو؟ فقال ابن عباس: السَّمَاءُ السَّابعَةُ تَحْتَ العَرْشِ، وَروي ذَلِكَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الضحاكُ: هو سِدْرَةُ المُنْتَهَى، وقال ابن عباس أيضاً: عليونَ: الجنة. وقوله تعالى: {يَشْهَدُهُ المقربون} يعني الملائِكة؛ قاله ابن عباس وغيره، و{يَنظُرُونَ} معناه إلى ما عندَهم مِن النعيم، والنَّضْرةُ: النعمةُ والرونقُ، والرحيقُ: الخَمْرُ الصافيةُ، و{مَّخْتُومٍ} يحتملُ أنَّه يُخْتَمُ على كؤوسه التي يشْرَبُ بها تَهَمُّماً وتنظفاً، والظاهر أنه مختُوم شربُه بالرائحةِ المِسْكِيةِ؛ حَسْبَمَا فسَّره قوله: {ختامه مِسْكٌ} قال ابن عباس وغيره: خاتمة شربه مسك، [وقرأ الكسائي: «خَاتَمُهُ مِسْكٌ»]، ثم حرَّضَ تعالى على الجنةِ بقوله: {وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون}.
{وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} وقوله تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} المِزَاجُ: الخلطُ، قال ابن عباس وغيره: {تَسْنِيمٍ}: أشْرَفُ شرابٍ في الجنةِ، وهو اسْمٌ مذكرٌ لِمَاءِ عينٍ في الجنةِ، وهي عين يشرب بها المقربون صرفاً ويُمْزَجُ رحيقُ الأبرارِ بها؛ وهذا المعنى في صحيح البخاري، وقال مجاهد ما معناه: أن تسنيماً مصدَرُ من سَنَّمْتُ: إذَا عَلَوْتُ، ومنه السَّنَامُ، فكأنه عينٌ قَدْ عَلِيَتْ على أهل الجنةِ فهي تَنْحَدِر، وقاله مقاتل، وجمهور المتأولينَ أنَّ منزلةَ الأبرار دونَ منزلة المقربينَ، وأن الأبرارَ هم أصحابُ اليمين، وأن المقربينَ هم السابقون. وقوله: {يَشْرَبُ بِهَا} بمعنى يْشَرَبُها.
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)} وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ} يعني في الدنيا، {يَضْحَكُونَ} من المؤمنينَ، رُوِيَ أن هذه الآيةَ نَزَلَتْ في صناديدِ قريشٍ وضَعَفَةِ المؤمنين، والضميرُ في {مَرُّواْ} للمؤمنينَ ويحتملُ أن يكونَ للكفارِ، وأما ضميرُ {يَتَغَامَزُونَ} فهو للكفارِ؛ لا يحتملُ غيرَ ذلك، و{فاكهين} أي: أصحابُ فُكَاهَةِ وَنَشَاطٍ وسرورٍ باسْتِخْفَافِهم بالمؤمنين، وأما الضميرُ في {رَأَوْهُمْ} وفي {قَالُواْ} فقال الطبريُّ وغيره: هو للكفارِ، وقال بعضُهم: بل المعنى بالعَكْسِ، وإنمَا المعْنَى وإذا رأى المؤمنونَ الكفَّارَ قالوا: {إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ}، وما أُرْسِلَ المؤمِنونَ حافِظِينَ على الكفَّارِ، وهذا كلَّه مَنْسُوخٌ على هذا التأويل، * ت *: والأول أظهر.
{عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} وقوله تعالى: {عَلَى الأرائك يَنظُرُونَ} أي: إلى أعدائهم في النار، قال كعب: لأهل الجنةِ كُوًى ينظرون منها، وقال غيره: بينهم جِسْمٌ عظيم شَفَّافٌ يرونَ معه حالَهم، * ت *: قال الهرويُّ: قوله تعالى: {عَلَى الأرائك يَنظُرُونَ}، قال أحمد بن يحيى: الأريكَةُ: السريرُ في الحَجَلَةِ ولا يسمى مِنْفَرِداً أريكةً، وسمعتُ الأزهريَّ يقولُ: كل ما اتكئ عليه فهو أريكةٌ، انتهى، {هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي: جزاءَ ما كانوا يفعلون، و{هَلْ ثُوِّبَ} تقريرٌ وتوقيفٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وأمَّتهِ.
{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)} قوله تعالى: {إِذَا السماء انشقت} الآية، هذه أوْصافُ يوم القيامةِ {وَأَذِنَتْ} معناه: اسْتَمَعَتْ وسَمِعَتْ أَمْرَ ربِّها؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " ما أذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ أَذَنَهُ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بالقُرآنِ "، و{حُقَّتْ} قال ابن عباس: معناه: وحُقَّ لها أنْ تَسْمَع وتطيع، ويحتملُ أن يريدَ: وحُقَّ لها أن تنشقَ لشدةِ الهولِ وخوفِ اللَّه تعالى، ومدُّ الأرْضِ هي إزالةُ جبالِها حتى لا يبقى فيها عوجٌ ولا أمْتٌ، وفي الحديث: " تُمَدُّ مَدَّ الأَدِيمِ "، و{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} يعني: من الموتَى؛ قاله الجمهورُ. وخَرَّج الختلي أبو القاسمِ إسحاقُ بن إبراهيم في كتاب «الدّيباج» له بسندهِ عن نافعٍ عن ابن عمرَ " عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {إِذَا السماء انشقت * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} قال: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقَّ عَنْهُ الأَرْضُ فَأَجْلِسُ جَالِساً في قَبْرِي، فَيُقْتَحُ لِي بَابٌ إلَى السَّمَاءِ بِحِيَالِ رَأْسِي حتى أَنْظُرَ إلَى العَرْشِ، ثُمَّ يُفْتَحُ لي بَابٌ مِنْ تَحْتِي؛ حتى أَنْظُرَ إلَى الأَرْضِ السَّابِعَةِ؛ حتى أَنْظُرَ إلى الثرى، ثُمَّ يُفْتَحُ لي بَابٌ عَنْ يَمِينِي حتى أَنْظُرَ إلَى الجَنَّةِ وَمَنَازِلِ أَصْحَابِي، وَإنَّ الأَرْضَ تَحَرَّكَتْ تَحْتِي فَقُلْتُ: مَا لَكِ أَيَّتُهَا الأَرْضُ؟ قَالَتْ: إنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُلْقِيَ مَا في جَوْفِي، وأنْ أَتَخَلَّى؛ فَأَكُونَ كَمَا كُنْتُ؛ إذْ لاَ شَيْءَ فِيَّ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}، {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي: سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَسْمَعَ وَتُطِيعَ "، الحديثَ، انتهى من «التذكرة»، و{تخلّت} معناه خَلَّتْ عَمَّا كَانَ فيها لَمْ تَتَمَسَّكْ منهم بشيء.
{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)} {ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ...} الآية، الكادحُ: العاملُ بشدّةٍ واجتهادٍ، والمعنى: إنَّك عامل خيراً أو شراً، وأنتَ لا محالةَ ملاقِيه، أي: فكنْ على حَذَرٍ من هذهِ الحالِ، واعملْ صالحاً تَجِدْه، وأما الضميرُ في {مُلاَقِيهِ} فقال الجمهور: هو عائدٌ على الربّ تعالى، وقال بعضُهم: هو عائدٌ على الكَدْحِ * ت *: وهو ظاهرُ الآيةِ، والمعْنَى ملاقٍ جزاءَه، والحسابُ اليسيرُ: هو العَرْضُ؛ ومن نُوقِشَ الحسابَ هَلَكَ؛ كذا في الحديث الصحيح، وعن عائشةَ: هو أن يعرفَ ذنوبَه ثم يُتَجَاوَزَ عنْه، ونحوُه في الصحيح عن ابن عمر، انتهى، وفي الحديث " عن عائشةَ قالتْ: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ في بَعْضِ صَلاَتِهِ: «اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَاباً يَسِيراً، فَلَمَّا انصرف؛ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْحِسَابُ اليَسِيرُ؟ قال: أَنْ يَنْظُرَ في كِتَابِهِ وَيَتَجَاوَزَ عَنْهُ؛ إنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَا عَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ هَلَكَ، وَكُلُّ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةَ تَشُوكُهُ» "، قال صاحب «السلاح»: رواه الحَاكِمُ في «المُسْتَدْرَكِ»، وقال: صحيحٌ على شَرْطِ مُسْلِمٍ، انتهى، ورَوَى ابن عُمَرَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ في الدُّنْيَا، هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِسَابَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ "؛ قال عِزُّ الدينِ بنُ عَبدِ السَّلاَمِ في اختصاره ل«رعاية المحاسبي»: أجمع العلماءُ على وجوبِ محاسَبَةِ النفسِ فيما سَلَفَ من الأعمال وفيما يُسْتَقْبَلُ منها، «فالْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وتمنى عَلَى اللَّهِ»، انتهى. {وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ} أي: الذين أعدَّهمُ اللَّه لهُ في الجنةِ، وأما الكافر فرُوِيَ أنَّ يَدَه تدخُلُ من صَدْرِه حتَّى تَخْرُجَ من وراءِ ظهرِه فيأخذَ كتابَه بِها. و {يَدْعُواْ ثُبُوراً} معناه: يصيحُ مُنْتَحِباً: وا ثبوراه؛ وا حزناه، ونحوه هذا، والثبورُ اسْمٌ جامع للمكارِه، كالويلِ.
{إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)} وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ} يريدُ في الدنيا، {مَسْرُوراً} أي: تَمَلَّكَهُ ذلكَ لاَ يدرِي إلا السرورَ بأهلهِ دونَ معرفةِ ربه. وقوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} معناه: أن لن يرجِعَ إلى اللَّه مبعوثاً محشُوراً، قال ابن عباس: لم أعلم ما معنى {يَحُورَ}؛ حتى سَمِعْتُ امرأة أَعْرَابِيَّةً تَقُولُ لِبُنَيَّةٍ لَهَا: حُورِي؛ أي: ارجعي، * ص *: {بلى} إيجابٌ بَعْدَ النفي، أي: بلى؛ لَيَحُورَنَّ أي: ليرْجِعَنَّ، انتهى.
{فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)} وقوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق} «لا» زائِدةٌ وقيلَ: «لا» ردٌّ عَلى أقوالِ الكفار، و{الشفق} الحُمْرَةُ التي تَعْقُبُ غَيْبُوبَةَ الشمسِ مع البياضِ التابعِ لها في الأغلب، و{وَسَقَ} معناه: جُمِعَ وَضُمَّ ومنه الوَسْقُ أي: الأَصْوُعُ المجموعةُ، والليل يَسِق الحيوانَ جملة أي: يجمَعَها وَيَضُمُّها، وكذلك جميعُ المخلوقاتِ التي في الأرض والهواء من البحار والجبال والرياح وغير ذلك، واتساقُ القمر كمالُه وتمامُه بدراً، والمعنى امتلأَ من النور، وقرأ نافع وأبو عَمْرٍو وابن عامر: «لَتَرْكَبُنَّ» بضم الباءِ والمعنى: لتركبُنَّ الشدائِدَ: الموتَ والبعثَ والحسابَ حالاً بعد حالٍ، و«عن» تجيءُ بمعنى «بعد» كما يقال: ورثَ المجدَ كَابِراً عن كابرٍ، وقيلَ: غير هذا، وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير: «لَتَرْكَبَنَّ» بفَتْحِ الباءِ على معنى أنتَ يا محمد، فقيلَ: المعنى حالاً بعد حالٍ من معالَجةِ الكفارِ، وقال ابن عباس: سماءً بعد سماءٍ في الإسراء، وقيل: هي عِدَةٌ بالنَّصْرِ أي لتركبَنَّ أمْرَ العربِ قَبِيلاً بعد قَبِيل؛ كما كان، وفي البخاري عن ابن عبَّاس: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} حَالاً بَعْدَ حَالٍ؛ هَكَذَا قَالَ نِبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم، انتهى، ثم قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، أي: ما حجتُهم مع هذهِ البراهين الساطعةِ، و{يُوعُونَ} معناه: يَجْمَعُونَ من الأعمالِ والتكذيبِ كأنهم يجعلونَها أوعيةٍ، تقول وَعَيْتُ العلم، وأَوْعَيْتُ المتاع، و{مَمْنُونٍ} معناه: مقطوع.
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)} الجمهورُ: أنَّ «والبروج» هي المنازلُ التي عَرَفَتْهَا العربُ، وقد تقدم الكلامُ عليها، {واليوم الموعود}: هو يومُ القِيَامَةِ باتفاق؛ كما جاء في الحديث، وإنما اختلفَ الناسُ في الشاهِد والمشهودِ اختلافاً كثيراً، فقال ابن عباس: الشاهدُ: اللَّهُ والمشهودُ: يومُ القيامة، وقال الترمذيُّ: الشاهدُ: الملائكةُ الحفظةُ، والمشهود [أي] عليه: الناسُ، وقال أبو هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم: الشاهدُ يوم الجمعةِ، والمشهودُ يومُ عرفة، * ت *: ولو صَحّ لوجبَ الوقوفُ عندَه.
{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)} وقوله تعالى: {قُتِلَ أصحاب الأخدود} معناه فَعَلَ اللَّه بهم ذلكَ؛ لأنَّهم أهل له؛ فهو على جهة الدعاءِ بحسَبِ البشر، لا أنّ اللَّه يدعُو على أَحَدٍ، وقيل عن ابن عباس: معناه لُعِنَ وهذا تفسيرٌ بالمعنى، وقال الثعلبي: قال ابن عباس: كل شيء في القرآن {قُتِلَ} فهو: لُعِنَ، انتهى، وقيلَ: هو إخبارٌ بأنّ النارَ قَتَلَتْهُم؛ قاله الربيع بن أنس، * ص *: وجوابُ القَسَمِ محذوفٌ أي: والسماءِ ذاتِ البروجِ لَتُبْعَثُنَّ، وقال المبردُ: الجوابُ: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}، وقيل الجوابُ: {قُتِلَ} واللامُ محذوفةٌ أي: لَقُتِلَ، وإذا كانَ {قُتِلَ} هو الجوابُ فهو خَبَرٌ انتهى، وصَاحِبُ الأخدودِ: مذكورٌ في السِّيَرِ وغيرِها وحديثُه في مُسْلِمٍ مُطَوَّلٌ وهو مَلكٌ دَعَا المؤمنينَ باللَّهِ إلى الرجوعِ عن دينِهم إلى دينهِ، وخَدَّ لَهُمْ في الأرْضِ أخَادِيدَ طويلةً؛ وأضْرَمَ لهم ناراً وجَعَلَ يَطْرَحُ فيها من لم يرجعْ عن دينهِ؛ حتى جَاءَتْ امرأةٌ مَعِا صبيٌّ فَتَقَاعَسَتْ؛ فقال لها الطفل: يا أُمَّهْ؛ اصْبِرِي فِإنَّكِ عَلى الحق، فاقْتَحَمَتِ النارَ. وقوله: {النار} بدلٌ من الأخدودِ وهو بدلُ اشتمالٍ، قال * ع *: وقال الربيع بن أنس وأبو إسحاق وأبو العالية: بعثَ اللَّهُ على أولئك المُؤْمِنينَ رِيحاً فَقَبَضَتْ أرواحَهم أو نحوَ هذا، وخَرَجَتِ النارُ فأحْرَقَتِ الكافرينَ الذينَ كانُوا على حَافَّتَيِ الأخْدُودِ؛ وعلى هذا يجيءُ {قُتِلَ} خبراً لاَ دُعاء.
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)} وقوله تعالى: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات...} الآية، فَتَنُوهُمْ، أي: أحرقوهم، * ت *: قال الهروي: قولُه تعالى: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق} أي: لهم عذابٌ لكفرِهم وعذابٌ بِإحْرَاقِهم المؤمنينَ، انتهى، قال * ع *: ومَنْ قَال: إنَّ هذه الآياتِ الأواخِرَ في قريشٍ جَعلَ الفِتنةَ الامتحانَ والتعذيبَ، ويقوِّي هذا التأويلَ بعضَ التقويةِ قولُه تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ}، لأنَّ هذا اللفظُ في قريشٍ أشْبَهُ منه في أولئك، والبطشُ: الأخذُ بقوةٍ.
{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} وقوله: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئ وَيُعِيدُ} قال الضحاك وابن زيد: معناه: يُبْدِئ الخلقَ بالإنْشَاءِ، ويُعيدُهم بالحَشْرِ، وقال ابن عباس ما معناه: إنَّ ذلكَ عامُّ في جميع الأشْياءِ، فهي عبارةٌ على أنَّه يفعلُ كلَّ شيءٍ، أي: يُبْدِئ كل ما يُبْدَأُ ويُعِيدُ كلَّ مَا يُعَادُ، وهذانِ قسمانِ يستوفيانِ جميعَ الأشياءِ، و{الجنود} الجمُوع، و{فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} في موضعِ خفضٍ على البدلِ من الجنودِ، ثم تركَ القولَ بحالِهِ، وأضْرَبَ عنه إلى الإخبارِ بأن هؤلاء الكفارَ بمحمدٍ وشرعِه؛ لا حجةَ لهم ولا برهانَ؛ بلْ هُو تكذيبٌ مُجرَّدٌ سببُه الحسَدُ، ثم تَوَعَّدَهم سبحانَه بقوله: {والله مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ} أي: عذابُ اللَّهِ ونقمتُه مِن ورائهم، أي: يأتي بَعْدَ كفرِهم وعِصْيانهم، وقَرأ الجمهورُ: «في لوح محفوظٍ» بالخفضِ صفةً ل«لوح» وقرأ نافعٌ: «محفوظٌ» بالرفعِ، أي: محفوظ في القلوبِ لاَ يدركُه الخطأَ والتبديلُ.
{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} أقسم اللَّهُ تعالى بالسماءِ المعروفةِ في قول الجمهور، وقِيل: السماءُ هنا هو المطرُ، {والطارق}: الذي يأتي ليلاً، ثم فسَّر تعالى هذا الطارقَ بأنَّه: {النجم الثاقب} واخْتُلِفَ في {النجم الثاقب} فقال الحسنُ بن أبي الحسن ما معناه؛ أنه اسمُ جنسٍ؛ لأنها كلَّها ثاقِبة، أي: ظاهرة الضوء، يقال: ثَقُبَ النجمُ إذا أضاء، وقال ابن زيد: أرادَ نَجماً مخصوصاً؛ وهو زُحَلُ، وقال ابن عباس: أراد الجَدْيَ، وقال ابن زيد أيضاً: هو الثُّرَيّا، وجَوابُ القسم في قوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ...} الآية، و«إنْ» هي المخففةُ من الثقيلةِ، واللامُ في «لَمَّا» لامُ التأكيدِ الداخلةِ على الخبرِ؛ هذا مذهبُ حُذَّاقِ البصريين، وقال الكوفيون «إنْ» بمعنى «ما» النافيةِ، واللامُ بمعنى «إلا» فالتقديرُ: ما كلُّ نفسٍ إلا عليها حافظٌ، ومعنى الآيةِ فيما قال قتادة وغيره: إنَّ على كل نفسٍ مكلَّفَةٍ حافظاً يُحْصِي أعمالَها ويُعِدُّهَا للجزاءِ عليها، وقال أبو أمامة قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية: " إنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ حَفَظَةً مِنَ اللَّهِ يَذُبُّونَ عَنْهَا كَمَا يُذَبُّ عَنْ قَصْعَةِ العَسَلِ الذُّبَابُ، وَلَوْ وُكِلَ المَرْءُ إلى نَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لاخْتَطَفَتْهُ الشَّيَاطِينُ ".
{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)} وقوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ} توقيفٌ لمنكرِي البعثِ على أصلِ الخِلْقَةِ الدالِّ على أن البعثَ جائزٌ ممكن، ثم بادَرَ اللفظَ إلى الجوابِ اقْتِضَاباً وإسْراعاً إلى إقامَةِ الحجة، فقال: {خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب} قال الحسن وغيره: معناه: من بينِ صلبِ كلِّ واحدٍ من الرجلِ والمرأةِ، وترائِبِه، وقال جماعةُ: من بينِ صلبِ الرجل وترائب المرأةِ [والتَرِيبَةُ من الإنسان: ما بين التَّرْقُوةِ إلى الثدي، قال أبو عبيدة مُعَلَّقُ الحَلْيِ إلى الصَّدْرِ، وقيل غير هذا.
{إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} وقوله تعالى: {إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} قال ابن عباس وقتادة: المعنى أن اللَّهَ عَلى ردِّ الإنسانِ حيًّا بعد موتهِ لقادرٌ، وهذا أظهر الأقوال هنا وأبينُها، و{دَافِقٍ} قال كثير من المفسرين: هو بمعنى مَدْفُوقٍ، والعاملُ في {يَوْمٍ} الرَّجْع من قولهِ: {على رَجْعِهِ}. و {تبلى السرائر} معناه تُخْتَبَرُ وتكشَفُ بواطنُها، ورَوَى أبو الدرداءِ عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن السرائرَ التي يَبْتَلِيهَا اللَّه من العباد: التوحيدُ، والصلاةُ، والزكاةُ، والغُسْلُ من الجنَابةِ، قال * ع *: وهذهِ معظَمُ الأمرِ، وقال قتادة: الوجهُ في الآيةِ العمومُ في جميعِ السرائرِ، ونَقَلَ ابنُ العربي في «أحكامِه» عن ابن مسعود: أنَّ هذه المذكوراتِ [مِنَ] الصلاةِ والزكاةِ والوضوءِ والوديعةِ كلَّها أمَانَةٌ، قال: وأَشَدُّ ذلكَ الوديعةُ تَمْثُلُ له، أي: لمن خَانَها على هيئَتِها يوم أخَذَها فَتُرْمَى في قَعْر جهنمَ، فيقالُ له: أخْرِجْها، فيتبعُها فيجعلُها في عنقهِ فإذا أراد أن يخرجَ بهَا زَلَّتْ منه فيتبعُها؛ فهو كذلكَ دَهْرَ الداهرينَ، انتهى، * ت *: قال أبو عبيد الهروي: قوله تعالى: {يَوْمَ تبلى السرائر} الواحدةُ سَرِيرَةٌ وهي الأعمالُ التي أسرَّهَا العبادُ، انتهى، و{الرجع} المطرُ وماؤُه، وقال ابن عباس: الرجعُ: السحابُ فيه المطرُ، قال الحسنُ: لأنه يَرْجِعُ بالرزقِ كلَّ عامٍ، وقال غيرُه: لأنه يرجع إلى الأرض، و{الصدع} النباتُ؛ لأن الأرضَ تَتَصَدَّعُ عنْه، والضمير في {إِنَّهُ} للقرآن، و{فَصْلٌ} معناه: جَزْمٌ فَصَلَ الحقائِقَ مِنَ الأباطيلِ، و{الهَزْل} اللعِبُ الباطلُ، ثم أخبر تعالى عن قريش أنهم يَكِيدُونَ في أفعالِهم وأقوالِهم بالنبي عليه السلام، و{وَأَكِيدُ كَيْداً} وهذا على مَا مَرَّ من تسميةِ العُقُوبة باسْمِ الذنبِ، و{رُوَيْداً} معناه: قليلاً؛ قاله قتادة، وهذهِ حالُ هذهِ اللفظةِ؛ إنما تقدمَها شيءٌ تَصِفُه كقولك: سيراً رويداً، أو تقدمَها فعل يَعْملُ فيها كهذهِ، وأما إذا ابتدأتَ بها فقُلْتَ: رويداً يا فلان؛ فهي بمعنى الأمر بالتَمَاهُلِ، * ص *: {رُوَيْداً} قال أبو البقاء: نَعْتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: إمْهَالاً رُوَيْداً، و«رويداً» تَصْغِيرُ «رَوْدٍ» وأنشَد أبو عُبَيْدَةَ: [البسيط] يَمْشِي ولاَ تَكْلِمُ البَطْحَاءَ مِشْيَتُهُ *** كَأَنَّهُ ثَمِلٌ يَمْشِي على رَوْدِ أي: على مَهْلٍ ورِفْقٍ، انتهى.
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)} {سَبِّحِ} في هذه الآية بمعنى: نَزِّه وقَدِّسْ وَقُلْ: جَلَّ سبحانَه عن النقائِص والغَيْرِ جميعاً، ورَوَى ابنُ عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية، قالَ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعلى» "، وكان ابن مسعودِ وابنُ عمرَ وابنُ الزبيرِ يفعلون ذلك، ولما نَزَلَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اجْعَلُوهَا في سُجُودِكُم "، وعن سلمةَ بنِ الأكوع قال: " مَا سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِحُ دُعَاءً إلاَّ استفتحه ب«سُبْحَان رَبِّيَ الأعلى الوهَّاب» " رواه الحاكم في «المستدركِ»، وقال: صحيحُ الإسنادِ، انتهى من «سلاح المؤمن». و«سُوًى» معناه: عَدَّلَ وأتْقَنَ. وقوله: {فهدى} عامٌّ لوجوهِ الهداياتِ في الإنسانِ والحيوانِ، وقال الفراء: معناه هَدَى وأضَلَّ؛ والعمومُ في الآيةِ أصوبُ، و{المرعى}: النباتُ، و«الغُثَاء»: مَا يَبِسَ وجَفَّ وتَحَطَّمَ من النباتِ؛ وهو الذي يحمله السيلُ، و«الأَحْوَى» قيلَ هو الأَخْضَرُ الذي عليه سَوَادٌ من شدَّةِ الخُضْرَةِ والغَضَارة، فتقديرُ الآيةِ: الذي أخْرَجَ المَرْعى أحوَى أي أسْوَدَ من خضرتهِ وغَضَارَتِه فجعَله غُثَاءً عِنْدَ يُبْسِه ف {أحوى}: حالٌ، وقال ابن عباسٍ: المعنى: فجعله غُثَاءً أحْوَى أي أسْوَدَ؛ لأن الغُثَاءَ إذا قَدِمَ وأصَابَتْهُ الأمْطَارُ اسْوَدَّ وتَعَفَّنَ فَصَارَ أحوى، فهذَا صفةٌ.
{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)} وقولُهُ تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} قال الحسنُ وقتادة ومالك بن أنس: هذه الآيةُ في معنى قوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [القيامة: 16] الآية، وَعَدَهُ اللَّه أنْ يُقْرِئَه وأخبرَه أنه لاَ يَنْسى نِسْياناً لا يكونُ بعدَه ذِكر، وقيل: بلِ المعنى: أنه أمره تعالى بأنْ لا يَنْسَى على معنى التَّثْبِيتِ والتأكيدِ، وقال الجنيد: معنى {لا تنسى} لاَ تَتْرُكِ العمَلَ بما تَضَمَّنَ مِنْ أمْرٍ ونهي. وقوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَاءَ الله} قال الحسنُ وغيرهُ: معناه: مما قَضَى اللَّهُ بِنَسْخِه ورَفْعِ تلاوتِه وحُكْمه، وقال ابن عباس: {إِلاَّ مَا شَاءَ الله}: أنْ يُنْسِيَكَهُ؛ لِيُسَنَّ بهِ؛ على نَحْوِ قولِه عليه الصَّلاةُ والسلام: «إنِّي لأنسى أوْ أنسى لأَسُنَّ» قَالَ * ع *: ونسيانُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ممتنعٌ فيما أُمِرَ بتبليغهِ؛ إذ هُو معصومٌ فإذا بَلغَهُ وَوَعَى عنه؛ فالنسيانُ جائِزٌ على أن يَتَذَكَّرَ بعدَ ذلك، أو على أنْ يَسُنَّ، أو عَلى النسخِ.
{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)} وقوله تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لليسرى} معناه: نَذْهَبُ بك نحوَ الأمورِ المُسْتَحْسَنَةِ في دنياكَ وَأُخْرَاكَ من النَّصْرِ والظَفَرِ، ورِفعةِ الرسالةِ وعلو المنزلةِ يومَ القيامةِ، والرفعةِ في الجنة، ثم أمرَه تعالى بالتَّذكيرِ، قال بعضُ الحذَّاقِ: قوله تعالى: {إِن نَّفَعَتِ الذكرى} اعْتِرَاضٌ بَينَ الكلامينِ على جِهَةِ التوبِيخِ لقريشٍ، ثم أخبرَ تعالى أنّه سَيَذَّكَرُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ والدارَ الآخِرَةِ وهمُ العلماءُ والمؤمنونَ، كُلٌّ بقدْرِ ما وُفِّقَ له، ويَتَجَنَّبُ الذِكْرَى ونَفْعَها مَنْ سبقتْ له الشَقَاوَةُ.
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} وَ {تزكى} معناه: طَهَّرَ نَفْسَه ونماها بالخيرِ، ومِنَ «الأربعين حديثاً» المسندةِ لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري الإمامِ المحدثِ قال في آخرها: وحديثُ تمامِ الأربعينَ حديثاً؛ وهو حديثٌ كبيرٌ جامعٌ لكلِّ خيرٍ؛ حدَّثنا أبو بكرٍ جعفرُ بنُ محمدٍ الفِرْيَابِيُّ إملاءً في شهر رجب سنةَ سبعٍ وتسعينَ ومائتين؛ قال: حدثنا إبراهيمُ بنُ هشامِ بنِ يحيى الغسانيّ قال: حدثني أبي عن جَدِّي عن أبي إدريسَ الخَوْلاَنِيِّ عَن أَبي ذَرٍّ قال: " دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَإذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، فَجَلَسْتُ إلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، لِلْمَسْجِدِ تَحِيَّةٌ، وَتَحِيَّتُهُ رَكْعَتَانِ؛ قُمْ فَارْكَعْهُمَا، قَالَ: فَلَمَّا رَكَعْتُهُما، جَلَسْتُ إلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّكَ أَمَرْتَنِي بِالصَّلاَةِ، فَمَا الصَّلاَةُ؟ قالَ: خَيْرٌ مَوْضُوعٌ، فاستكثر أَوِ استقلل " الحديثَ، وفيهِ: " قلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ كِتَاباً أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ: مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ؛ أَنْزَلَ اللَّهُ: عَلَى شِيثَ خَمْسِينَ صَحِيفَةً، وَعَلَى خَانُوخَ ثَلاَثينَ صَحِيفَةً، وعلى إبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ، وأَنْزَلَ عَلَى موسى قَبْلَ التَّوْرَاةِ عَشْرَ صَحَائِفَ، وأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ، وَالإنْجِيلَ، والزَّبُورَ، وَالفُرْقَانَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَتْ صُحُفُ إبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: كَانَتْ أَمْثَالاً كُلُّها: أَيُّهَا المَلِكُ المُسَلَّطُ المُبْتَلَى المَغْرُورُ، إنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا على بَعْضٍ، ولكني بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإنِّي لاَ أَرُدُّهَا وَلَوْ مِنْ كَافِرٍ، وَكَانَ فِيهَا أَمْثَالٌ: وَعَلَى العَاقِلِ أَنْ تَكُونَ لَهُ سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يُفَكِّرُ في صُنْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا لَحَاجَتِهِ مِنَ المَطْعَمِ وَالمَشْرَبِ، وَعَلَى العَاقِلِ أَلاَّ يَكُونَ ظَاعِناً إلاَّ لِثَلاَثٍ: تَزَوُّدٍ لِمَعادٍ، أو مَؤُونَةٍ لِمَعَاشٍ، أَوْ لَذَّةٍ في غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَعَلَى العَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيراً بِزَمَانِهِ، مُقْبِلاً على شَانِهِ، حَافِظاً للِسَانِهِ، وَمَنْ حَسِبَ كَلاَمَهُ مِنْ عَمَلِهِ؛ قَلَّ كَلاَمُهُ إلاَّ فِيمَا يَعْنِيهِ، قال: قُلْتُ: يَا رَسُولِ اللَّهِ، فَمَا كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى؟ قَالَ: كَانَتْ عِبَراً كُلُّهَا: عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالقَدَرِ، ثُمَّ هُوَ يَنْصَبُ، وَعَجِبْتُ لِمَن رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَها بِأَهْلِهَا؛ ثُمَّ اطمأن إلَيْهَا، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَداً ثُمَّ لاَ يَعْمَلُ، وَقَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَلْ في أَيْدِينَا شَيْءٌ مِمَّا كَانَ في أَيْدِي إبْرَاهِيمَ وموسى؛ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، اقْرأْ يَا أَبَا ذَرٍّ {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا} إلى آخِرِ هذه [السورةِ يعني: أنَّ ذِكْرَ هذه الآيَاتِ لَفِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وموسى قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَأَوْصِنِي، قَال: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَإنَّهُ رَأْسُ أَمْرِكَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ زِدْنِي؛ قَالَ: عَلَيْكَ بِتِلاَوَةِ القُرْآنَ وَذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَإنَّهُ ذِكْرٌ لَكَ في السَّمَاءِ وَنُورٌ لَكَ في الأَرْضِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زِدْنِي، قَالَ: وَإيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ؛ فَإنَّهُ يُمِيْتُ القَلْبَ، ويَذْهَبَ بِنُورِ الْوَجْهِ، قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ زِدْنِي، قَالَ: عَلَيْكَ بِالجَهَادِ؛ فِإنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ زِدْنِي، قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّمْتِ إلاَّ مِنْ خَيْرٍ؛ فَإنَّهُ مَطْرَدَةٌ للشَّيْطَانِ وَعَوْنٌ لَكَ على أَمْرِ دِينِكَ " انتهى. وقوله تعالى: {وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ} أي: وَحَّدَهُ وَصلَّى له الصلواتِ المفروضةَ وغيرَها، وقال أبو سعيد الخدري وغيره: هذه الآيةُ نزلتْ في صَبِيحَةِ يومِ الفِطْرِ، ف {تزكى}: أدَّى زكاةَ الفِطْرِ، {وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ} في طريق المُصَلَّى، وصَلَّى صلاةَ العِيد، ثم أخْبَرَ تعالى الناسَ أنهم يؤثِرُونَ الحياةَ الدنيا، وسَبَبُ الإيثارِ حُبُّ العَاجِلِ والجهلُ ببقاءِ الآخرةِ وفَضْلِها، ورَوِّينَا في كتابِ الترمذي عن ابن مسعودٍ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " استحيوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحياءِ، قَالَ: فقلنا: يَا رسولَ اللَّهِ، إنَّا نَسْتَحِي وَالحَمْدُ للَّهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ، ولكن الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وعى، وَتَحْفَظَ البَطْنَ وَمَا حوى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ والبلى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَركَ زِينَةَ الدّنْيَا، فَمَنْ فَعَل ذَلكَ فَقَدْ استحيا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاء " انتهى، قال الغَزَّاليُّ: وإيثارُ الحياةِ الدنيا طَبْعٌ غالبٌ على الإنسانِ؛ ولذلك قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا} ثمَّ بَيَّنَ سبحانه أن الشَّرَّ قَدِيمٌ في الطباعِ وأن ذلكَ مذكورٌ في الكتُبِ السالِفَة فقال: {إِنَّ هذا لَفِى الصحف الأولى * صُحُفِ إبراهيم وموسى}، انتهى من «الإحياء.
{إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)} وقوله تعالى: {إِنَّ هذا} قال ابن زيد: الإشارَة ب«هَذَا» إلى هذينِ الخبرينِ: إفْلاحِ مَنْ تَزكّى، وإيثارِ الناسِ للدنيا مَعَ فَضْلِ الآخرة عليها، وهذا هو الأرجَحُ لقرب المشارِ إليه، وعن أُبيِّ بن كعب قال: " كانَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأُ في الْوِتْرِ ب«سبح اسم ربك الأعلى» و«قل ياأيها الكافرون» و«قل هو اللَّه أحد»؛ فإذا سَلَّمَ قال: سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُّوسِ؛ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يَمُدُّ صَوْتَهُ في الثَّالِثَةِ، ويَرْفَعُ "، رواه أبو داود والنسائي؛ وهذا لفظه، ورَواهُ الدارقطني في سُنَنِهِ، ولفْظُه: " فَإذَا سَلَّمَ قَالَ: سُبْحَانَ المَلِكِ الْقُدُّوسِ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ في الأخِيرَةِ، وَيَقُولُ: رَبِّ المَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ "، انتهى من «السلاح»، قالَ النووي ورُوِّينَا في «سُنَنِ أبي داودَ» «والترمذي» «والنسائي» عن علي رضي اللَّه عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وِتْرِهِ: " اللهمَّ إني أعوذُ برضاكَ من سَخَطِكَ، وأعوذ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوْبَتِكَ، وأعوذ بك منكَ، لا أحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أنْتَ كَما أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ " قال الترمذيُّ: حديث حسن، انتهى.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)} قال بعض المفسرين: {هَلْ} بمعنى «قَدْ» وقال الحُذَّاق: هي على بابها توقيفٌ فائِدتُه تَحْرِيكُ نَفْسِ السامعِ إلى تَلَقِّي الخَبَرِ، و{الغاشية} القيامة، لأنها تَغْشَى العالَم كلَّه بهَوْلِها، والوجوهُ الخاشعةُ هي وجوهُ الكُفَّارِ وخشوعُها ذلُّها وتغييرُهَا بالعذابِ.
{عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)} وقوله سبحانه: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} قال الحسن وغيره: لم تعملْ للَّهِ في الدنيا فأعْمَلَهَا وأَنْصَبَها في النارِ، والنَّصَبُ التَّعبُ، وقال ابن عباس وغيره: المعنى عاملَةٌ في الدنيا ناصِبَةٌ فِيها على غير هُدًى فَلا ثَمَرَةَ لَعملِها، إلا النَّصَبُ، وخاتمتُه النارُ، قالوا: والآية في القِسِّيسينَ وكلِّ مجتهدٍ في كُفْرٍ، وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو «تُصْلَى» بضم التاءِ والباقونَ بفتحها والآنيةُ: التي قد انتَهى حرُّها كما قال تعالى {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] وقال ابن زيد: آنية: حَاضِرَة، والضريعُ: قال الحسن وجماعةً: هو الزَّقُّوم، وقال ابن عباسٍ وغيرهُ: الضريعُ شَبْرَقُ النار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم الضريعُ شَوْكٌ في النارِ، * ت *: وهذا إنْ صَحَّ فلا [يُعْدَلُ] عنه، وقيل غير هذا، ولما ذَكَر تعالى وجوهَ أهلِ النار عَقَّبَ ذلك بذكرِ وجوه أهل الجنة ليبيَّنَ الفرقَ، وقولُه تعالى: {لِّسَعْيِهَا} يريدُ لَعَمَلِهَا في الدنيا وطاعتها، والمعنى لِثَوابِ سَعْيِها؛ والتَّنْعِيمُ عليه، ووصفَ سبحانَه الجنةَ بالعُلُوِّ وذلك يصحُّ من جهة المسَافَةِ والمكانِ، ومن جهة المكانَةِ والمنزلةِ أيضاً.
{لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)} {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغية} قيل: المعنى كلمةُ لاغيةٌ، وقيل جماعةٌ لاغية، أو فِئَة لاغيةٌ، واللَّغوُ سَقَطُ القَوْلِ، قال الفخر: قوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ} أي عاليَة في الهواء؛ وذلك لأجل أن يَرَى المؤمن إذا جلسَ عليها جميعَ ما أعطاه اللَّه تعالى في الجنةِ من النعيمِ والمُلْكِ، قال خارجة بن مصعب: بلغَنَا أن بعضَها فَوقَ بعضٍ فترتفعُ ما شاءَ اللَّه؛ فإذا جَاء وليُّ اللَّهِ ليجلسَ عليها تَطَامَنَتْ له فإذا استَوَى عليهَا ارْتَفَعَتْ إلى حيثُ شاءَ اللَّه سبحانه، انتهى.
{وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)} {وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ} أي: بِأَشْرِبتِها مُعَدَّةٌ، والنَمْرَقَةُ: الوسادةُ، والزَّرَابِيُّ: واحدها زُرْبِيَّةٌ، وهي كالطَّنَافِسِ لها خَمْلٌ؛ قاله الفراء، وهي ملوَّنَاتٌ و{مَبْثُوثَةٌ} معناه كثيرةٌ متفرقة، ثم وقفَهم سبحانه على مواضِع العبرةِ في مخلوقاتِهِ، و{الإبل} في هذه الآيةِ هي الجِمالُ المعروفةُ هذا قول الجمهور، وفي الجَمَلِ آياتٌ وعبر لِمَن تَأمَّلَ، وكان شُرَيْحُ القاضي يقول لأصحَابِهِ: اخْرُجُوا بنا إلى الكِنَاسَةِ، حتى ننظرَ إلى الإبل كيف خلقتْ، وقال المبردُ: الإبلُ هُنَا السحابُ لأَنَّ العربَ قد تسميها بذلك، إذ تأتي أرْسَالاً كالإبل، و{نُصِبَتْ}: معناه: أُثْبِتَتْ قائِمَةً في الهواءِ، وظاهرُ الآية أنّ الأرْضَ سَطْحٌ لا كرةٌ، وهو الذي عليه أهلُ العلمِ، وقد تقدم الكلامُ على هذا المعنى، ثم نَفَى أن يكونَ النبي صلى الله عليه وسلم مُصَيْطِراً على الناسِ، أي: قاهرًا جابراً لهم مع تَكَبُّرٍ مُتَسَلِّطاً عليهم.
{إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ} قال بعض المتأولين: الاستثناءُ متصلٌ، والمعنى: إلا مَنْ تولى فإنَّكَ مُصَيْطِرٌ عليه، فالآيةُ على هذا لا نَسْخَ فيهَا، وقال آخرون: الاستثناء مُنْفَصِلٌ، والمعنى: لست عليهم بمصيطرٍ لَكِنَّ مَنْ تَولَّى وكفر فيعذبُه اللَّه، وهِي آيةُ مُوَادَعَةٍ مَنْسُوخَةٌ بالسَّيْفِ وهذا هُو القولُ الصحيحُ؛ لأنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ والقِتَالُ إنَّما نَزَلَ بالمدينةِ * ص *: وقرأ زيد بن أسْلَم: «إلا من تولّى»: حرف تنبيه واستفتاحٍ، انتهى، وقال ابن العربي في «أحكامِه»: روى الترمذيُّ وغيرُهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " أُمِرْتُ أَنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حتى يَقُولُوا: لاَ إله إلاَّ اللَّه، فإذَا قَالُوهَا، عَصَمُوا مِنِّي دَمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ إلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ "، ثم قرأ: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} مفسِّراً معنى الآيةِ وكاشفاً خفاءَ الخفاءِ عنها، المعنى: إذا قال الناسُ: لا إله إلا اللَّه فَلَسْتَ بمسلَّطٍ على سَرَائرِهم وإنما عَلَيْكَ الظاهِرُ، وَكِلْ سرائرَهم إلى اللَّه تعالى، وهذا الحديثُ صحيحُ المعنى، واللَّه أعلم، انتهى، {إِيابَهُمْ}: مصدرٌ مِنْ آبَ يَؤوبُ: إذَا رَجَعَ.
{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)} الفَجْرُ هنا عند الجمهور: هو المشهورُ المعروفُ الطالِعُ كلَّ يومٍ، وقال ابن عباس وغيره: الفجرُ الذي أقسَم اللَّه به صلاةُ الصبحِ، وقيل غيرُ هذا. [واخْتُلِفَ في الليالي العشرِ فقيلَ: العشرُ الأُوَلُ مِنْ رمضانَ، وقيلَ: العشرُ الأواخِر منه، وقيل: عَشْرُ ذي الحجةِ، وقيل: غيرُ هذا] واللَّه أعلم بما أراد، فإن صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيءٌ في هذا صِيْرَ إليْهِ، واخْتُلِفَ في «الشَّفْعِ وَالْوتر» ما هما؟ على أقوالٍ كثيرةٍ، ورَوى عمرانُ بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " هي الصلواتُ منها الشَّفْعُ ومنها الوَتْرُ "، وسري الليل: هو ذهابُه وانقراضُه؛ هذا قولُ الجمهورِ، وقيل: المعنى: إذا يسرى فيه.
{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} {هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} أي: هل في هذه الأقسامِ مُقْنِعٌ لذي عقل؟ ثم وقَفَ تعالى عَلى مصارِعِ الأُمَمَ الخاليةِ «وعاد»: قبيلة بِلاَ خلافٍ، واختلفَ في: «إرَمِ» فقال مجاهدٌ: هي القبيلةُ بعَيْنِها، وقال ابن إسحاق: إرم: هو أبو عادٍ كلِّها، وقال الجمهور: إرم: مدينةٌ لهم عظيمةٌ كانَتْ عَلَى وجهِ الدَّهْرِ باليَمَنِ، واخْتُلِفَ في قوله تعالى: {ذَاتِ العماد} فمن قال: إرم مدينةٌ قال: العمادُ أَعْمِدَة الحجارةِ التي بُنِيَتْ بها، وقيلَ القُصورُ العالية، والأبراجُ يقال لها عِمَادٌ، ومَنْ قَال إرم قبيلةٌ قال: العماد إما أَعْمِدَةُ بنيانهم، وإما أَعْمِدَةُ بيوتِهم التي يَرْحَلُونَ بها؛ قاله جماعةٌ والضميرُ في {مِثْلُهَا} يعودُ إما على المدينةِ وإما على القبيلةِ. و {جَابُواْ الصخر} معناه: خَرَقُوه ونَحَتُوه، وكَانُوا في وادِيهم قد نَحَتُوا بيوتَهم في حجارةٍ، و{فِرْعَوْنَ} هو فِرْعَونُ مُوسىَ، واختلِفَ في أوتادهِ فقيل: أبنيتُه العاليةُ، وقيلَ جنودُه الذينَ بهم يُثَبِّتُ ملكَه، وقيل المرادُ أوتادُ أخبيةِ عساكرهِ، وذُكِرَتْ لكثرتِها؛ قاله ابن عباس، وقال مجاهد: كان يُوتِدُ الناس بأوتادِ حديدٍ، يَقْتلُهُم بذلك: يَضْرِبُها في أَبْدَانِهمْ حَتَّى تنْفُذَ إلى الأرضِ، وقيلَ: غيرُ هذا، والصَّبُّ مستعملٌ في السوطِ وإنما خُصَّ السوطُ بأنْ يُسْتَعَارَ للعذابِ؛ لأنه يقتضِي من التَّكْرارِ والتَّرْداد ما لا يقتضيه السيفُ، ولاَ غيرُه وقال بعض اللَّغويينَ: السَّوْطُ هنا مصدرٌ من سَاطَ يَسُوطُ إذَا خَلَطَ فكأَنه قال خَلْطُ عَذَابٍ. * ص *: قال ابن الأنباري: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} هُو جوابُ القَسَمِ، وقيل: محذوفٌ، وقيل: الجوابُ: {هَلْ فِى ذَلِكَ} و{هَلْ} بمعنى «إنّ» وليس بشيء، انتهى، و{المِرْصَادُ} والمَرْصَدُ: مَوْضِعُ الرَّصْدِ، قاله بعض اللغويين، أي: أَنَّه تعالى عنْدَ لسانِ كل قائلٍ ومَرْصَدٍ لكلِّ فاعلٍ، وإذا عَلِمَ العبدُ أَنَّ مولاه له بالمرصادِ ودَامَتْ مراقبتُه في الفؤادِ، حَضَره الخوفُ والحذُر لا محالةَ، {واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فاحذروه} [البقرة: 235] قال أبو حامد في «الإحياء»: وبحسبِ معرفةِ العبد بِعيوبِ نفسهِ، ومعرفتهِ بجلالِ ربه وتعالِيه واستغنائِه، وأنه لا يُسْأَلُ عما يفعلُ؛ تَكُونُ قوةُ خوفِه، فأخوفُ الناسِ لربه أعرفُهم بنفسِهِ وبربهِ، ولذا قَال صلى الله عليه وسلم: " أنا أخوفُكم للَّه "، ولذلكَ قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] ثم إذا كَمُلَتِ المعرفةُ أورثتِ الخوفَ واحْتراقَ القلبِ، ثم يُفِيضُ أَثَرُ الحُرْقَةِ من القلبِ على البَدَنِ فَتَنْقَمِعُ الشهواتُ، وتحترقُ بالخوفِ، ويحصُلُ في القلب الذبولُ والخشوعُ والذِّلَةُ والاستكانةُ، ويصيرُ العبدُ مستوعبَ الهَمِّ بخوفِه والنظرِ في خطرِ عاقبتِه؛ فلا يتفرغُ لغيرهِ، ولا يكونُ له شُغْل إلا المراقَبَة والمحاسبَة والمجاهدَة والضِّنَّة الأنْفَاسِ واللحظاتِ، ومؤاخَذَةِ النفسِ في الخَطَراتِ والخُطُواتِ والكلماتِ، ثم قال: واعْلَمْ أنه لاَ تَنْقَمِعُ الشهواتُ بشيءٍ كما تنقمع بنَارِ الخَوْفِ، انتهى.
{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)} وقوله سبحانه: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ...} الآية، ذَكَرَ تَعالى في هذهِ الآيةِ ما كانتْ قريشٌ تقولُهُ وتستدلُّ به على إكرامِ اللَّه وإهانَتِهِ لعبدهِ، وجَاءَ هذا التوبيخُ في الآيةِ لجنس الإنسان، إذ قد يقعُ بعضُ المؤمنينَ في شيء من هذا المَنْزَع، و{ابتلاه} معناه: اخْتَبَرَهُ، و{نَعَّمَهُ} أي جَعَلَهُ ذَا نِعْمَةٍ. «وقُدِرَ» بتخفيفِ الدال بمعنى: ضَيَّقَ، ثم قال تعالى: {كَلاَّ} ردّاً على قولهِم ومعتقدهم، أي: ليس إكرامُ اللَّهِ تعالى وإهانتُه كذلِكَ، وإنما ذلك ابتلاءٌ فَحَقُّ من ابتلي بالغنى أن يشكرَ ويطيعَ، ومَنْ ابْتُلِيَ بالفَقْرِ أن يشكرَ ويصبرَ، وأما إكرامُ اللَّه فهو بالتقوى وإهانَتُهُ فبالمعصيةِ، و{طَعَامِ} في هذهِ الآيةِ بمعْنَى: إطعام، ثم عدَّدَ عليهم جِدَّهم في أكل التراثِ، لأنهم كانوا لا يُورِّثُونَ النِّسَاءَ ولاَ صغارَ الأولادِ، وإنما كان يأخُذُ المالَ مَنْ يقاتِلُ ويَحْمِي الحَوْزَةَ، و«اللَّمُّ» الجَمْعُ واللَّفُّ، قال الحسن: هو أَن يأْخُذَ في الميراثِ حظَّه وحظَّ غيرِه، والجَمُّ الكثيرُ الشديدُ؛ ومنه قول الشاعر: [الرجز] إنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمّا *** وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا ومنه الجَمُّ من الناس، ودَكُّ الأَرْضِ تسويتُها.
{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)} وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} معناه جَاءَ أَمرُهُ وقضاؤه، وقال منذرُ بنُ سعيد: معناه ظهورُه للخَلْقِ، هنالك؛ ليس مجيءَ نَقَلةٍ وكذلك مجيءُ الصاخَّةِ، ومجِيء الطامةِ، والمَلَكُ اسم جنس يريد به جميعَ الملائِكة، و{صَفّاً} أي صُفُوفاً حولَ الأَرْضِ يوم القيامة على ما تقدم في غير هذا الموضع، و{وَجِاْئ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} رُوِيَ في قوله تعالى: {وَجِاْئ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} بأنها تساقُ إلى المحشر بسبعينَ ألفِ زمَامٍ يُمْسِكُ كلَّ زِمَامٍ سَبْعُونَ ألفَ مَلَكٍ، فيخرجُ منها عُنُقٌ فينتقي الجبابرةَ من الكفارِ، في حديثٍ طويلٍ باختلاف ألفاظ. وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان} معناه: يتذكر عصيانَه وما فاتَه من العمل الصالحِ، وقال الثعلبي: «يومئذ يتذكر الإنسان» أي يتَّعِظُ ويتوبُ، «وأنى له الذكرى»، انتهى.
{يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} وقوله: {ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى} قال الجمهور: معناه لحياتي الباقيةِ يريدُ في الآخِرَةِ. {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} أي لا يعذِّبُ كَعَذَابِ اللَّه أحَدٌ في الدنيا، ولا يُوثِقُ كَوَثَاقِه أحَد، ويحتمل المعنى أنَّ اللَّهَ تعالى لا يَكِلُ عذابَ الكافرِ يومئذ إلى أحد، وقرأ الكسائيُّ بفتح الذالِ والثاءِ أي: لا يعذَّبُ كعذَابِ الكافر أحَدٌ مِنَ الناسِ، ثم عقَّبَ تعالى بذكر نفوس المؤمنينَ وحالهم فقال: {ياأيتها النفس المطمئنة} الآية، والمطمئنةُ معناه: الموقِنَةُ غايةَ اليَقِينِ، ألا تَرى قَوْلَ إبراهيمَ عليه السلام {ولكن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} [البقرة: 260] فهي درجةٌ زائدةٌ على الإيمانِ، واخْتُلِفَ في هذا النداءِ: متى يقع؟ فقال جماعة: عند خروجِ رُوح المؤمِن، ورُوِي في ذلك حديثٌ، و{فِى عِبَادِى} أي: في عِدَاد عِبَادي الصالحينَ، وقال قوم: النداءُ عند قيام الأجْسَادِ من القبور، فقولُه: {ارجعى إلى رَبِّكِ} معناه بالبعثِ، و«ادْخُلِي في عِبَادي» أي في الأجْسَادِ، وقيل: النداءُ هو الآنَ للمؤمنينَ، وقال آخرونَ: هذا النداء إنما هو في المَوْقِفِ عندما يُنْطَلَقُ بأهل النار إلى النار. * ت *: ولا مانِع أن يكونَ النداءُ في جميعِ هذه المواطِنِ، ولما تكلَّمَ ابن عطاء اللَّه في مراعاة أحوال النفس قال: رُبَّ صاحبِ وِرْدٍ عَطَّلَه عن وِرْدِهِ والحضورِ فيه مع ربه هَمُّ التدبيرِ في المعيشةِ وغيرِها من مصالحِ النفسِ، وأنواعُ وَسَاوِسِ الشيطان في التدبيرِ لا تَنْحَصِرُ، ومتى أعطاكَ اللَّه سُبحانه الفَهْمَ عنه عرَّفَكَ كَيْفَ تَصْنَع، فَأَيُّ عبدٍ توفَّر عقلُه واتَّسَعَ نورُه نزلت عليه السكينةُ من ربّه فسكنَتْ نفسُهُ عن الاضْطِرَابِ، وَوَثِقَتْ بِوَلِيِّ الأسبابِ، فكانت مطمئنةً، أي: خامِدَةً ساكنةً مستسلمةً لأحكامِ اللَّهِ ثابتةً لأقدارِهِ وممدودةً بتأييدِه وأنوارِه، فاطمأنَّتْ لمولاَها؛ لعلمِها بأنه يَرَاهَا: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] فاستحَقَّتْ أنْ يقالُ لها: {ياأيتها النفس المطمئنة * ارجعى إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} وفي الآية خصائصُ عظيمةٌ لَها مِنْها ترفيعُ شأنِها بتَكْنِيَتِها ومَدْحِها بالطَّمْأنينَةِ ثَنَاءً منه سبحانه عليها بالاستسلام إليه والتوكلِ عليه، والمطمئنُّ المنخفضُ من الأرضِ، فلما انخفضتْ بتَواضُعِهَا وانكسارِها؛ أثْنَى عليها مولاَها، ومنها قوله: {رَاضِيَةً} أي: عن اللَّهِ في الدنيا بأحكامِه، و{مَّرْضِيَّةً} في الآخرةِ بِجُودِهِ وإنعامِه، وفي ذلك إشارةٌ للعَبْدِ أَنَه لا يَحْصُل له أنْ يكونَ مَرْضِيًّا عند اللَّه في الآخرةِ حتى يكونَ راضِياً عن اللَّهِ في الدنيا، انتهى من «التنوير».
{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)} قوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} الكلامُ في لا تقدم في {لاَ أُقْسِمُ} [القيامة: 1] والبَلَدُ هو: «مكة». وقوله تعالى: {وَأَنتَ حِلٌّ} قال ابن عباس وجماعة: معناه وأنت حَلاَلٌ بهذا البلد، يحلُّ لك فيه قَتْلُ من شئتَ، وكان هذا يومُ فَتْحِ مكة، وعلى هذا يتركبُ قولُ مَنْ قال: السورة مدنية نَزَلَتْ عَامَ الفتح، وقال آخرون: المعنى وأنْتَ حَالُّ ساكنٌ بهذا البلد.
{وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)} وقوله تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} قال مجاهد: هو آدم وجميع ولدهِ، وقال ابن عباس: ما معناه أنّ الوالدَ والولدَ هنا على العمُومِ فهي أسماء جِنْسٍ يَدْخل فيها جميعُ الحيوانِ، والقَسَمُ واقع على قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ} قال الجمهور: الإنْسَانُ اسم جنسٍ والكَبَدُ المشقةُ والمكَابَدَةُ، أي: يُكَابِد أمرَ الدنيا والآخرة، ورُوِيَ: أَن سببَ نزولِ هذه الآية رَجُلٌ من قريشٍ يقال له أبو الأَشَدِّ، وقيل نزلتْ في عمرو بن عبد ود، وقال: مقاتل: نَزَلَتْ في الحارثِ بن عامر بن نوفل؛ أذنبَ فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُ بِالكَفَّارَةِ، فَقَالَ: لَقَدْ أَهْلَكْتُ مَالاً في الكفارات وَالنفَقَاتِ، مُذْ تَبِعْتُ مُحَمَّداً، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ادعى أَنَّهُ أَنْفَقَ مَالاً كَثِيراً على إفْسَادِ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ في الكَفَّارَاتِ على مَا تَقَدَّمَ. وقوله: {أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} أي: أنفقْتُ مالاً كثيراً، ومن قال: أَن المرادَ اسمُ الجِنْسِ غيرُ معينٍ، جَعَلَ قولَه: {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} بمعنى: أيظُنُّ الإنسانُ أن لَيس عليه حفظةٌ يرون أعمالَه ويُحْصونَها؛ إلى يوم الجزاء، قال السهيلي: وهذه الآيةُ وإن نزلتْ في أبي الأشد فإن الألفَ واللامَ في الإنسان للجنسِ، فيشتركُ مَعَهُ في الخِطابِ كلّ من ظن ظنه وفعل مثلَ فِعْلِه وعلى هذا أكثرُ القُرْآنَ، يَنْزِل في السَّبَبِ الخاصِّ بلفظِ عامٍ يتناولُ المَعْنَى العام انتهى، وخرَّج مسلم عن أبي برزة قَال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا العَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ حتى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمْرِه فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ به، وَعَنْ مَالِهِ، مِنْ أَيْنَ اكتسبه وَفِيمَ أَنْفَقَهُ»، وخرَّجه أيضاً الترمذيُّ وقال فيه: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، انتهى، وقرأ الجمهور: {لُّبَداً} أي: كثيراً متلبِّداً بعضُه فوقَ بعضٍ، ثم عدَّدَ تعالى علَى الإنسانِ نَعَمَه في جوارِحه، و{النجدين}: قال ابن عباس والناسُ: هما طريقَا الخَيْرِ والشرِّ، أي: عَرَضْنَا عليه طريقَهما، وليستِ الهداية هنا بمعنى الإرْشَادِ، وقال الضحاكُ: النَّجْدَانِ ثَدْيَا الأُمِّ، وهذا مثالٌ، والنجْدُ: الطريقُ المرتفعُ.
{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} وقوله تعالى: {فَلاَ اقتحم العقبة} الآية، قولهُ «فَلاَ» هو عند الجمهورِ تحضيضٌ بمعنى: ألا اقتحم، والعقبةُ في هذه الآيةِ عَلى عُرْفِ كلامِ العَرَبِ استعارةٌ لهذا العمل الشاقِّ على النفسِ، من حيثُ هو بِذَلُ مالٍ، تشبيهٌ بعقبةِ الجبَلِ، و{اقتحم}: معناه: دَخَلَهَا وجَاوَزَها بسرعةٍ وضَغْط وشدة، ثم عَظَّم تعالى أمر العقبةِ في النفوس بقولهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة} ثمَّ فَسَر اقتحَامَ العقبةِ بقوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ} الآية، وهذا على قراءةِ مَنْ قرأ: {فَكُّ رَقَبَةٍ} بالرفعِ على المَصْدَرِ وأما من قرأ: «فَكَّ رَقَبَةً أوْ أطْعَمَ» عَلَى الفعلِ، ونَصَبَ الرقبةَ، وهي قراءةُ أبي عمرِو، فليسَ يحتاجُ أن يُقَدَّرَ: وما أدرَاكَ ما اقتحامٌ بلْ يكونُ التعظيمُ للعقَبةِ نَفْسِها ويجيءُ {فَكُّ} بَدَلاً من {اقتحم} ومبيَّناً لَه، وفَكُّ الرقَبةِ هو عَتْقُها من رِبْقَةِ الأسرِ أو الرِّقِّ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أعْتَقَ نَسَمَةً مؤمِنَةً أعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ "، والمسْغَبَةُ: المجاعَةُ، والساغِبُ: الجائعُ و{ذَا مَقْرَبَةٍ}: معناه: ذَا قَرَابَةٍ؛ لتجتمعَ الصدقةُ والصلة، و{ذَا مَتْرَبَةٍ}: معناه: مُدْقَعاً قَدْ لَصِقَ بالترابِ وهذا ينْحو إلى أنّ المسكينَ أشَدَّ فاقةً مِنَ الفقيرِ، قال سفيانُ: هم المَطْرُوحُونَ على ظهرِ الطريقِ قُعُوداً على الترابِ لا بُيُوتَ لهم، وقال ابن عباس: هو الذي يَخْرُجُ من بيته ثم يَقْلِبُ وجهَه إلى بيته مستيقناً أنه ليسَ فيه إلا التراب.
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)} وقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ} معطوفٌ على قوله: {اقتحم} والمعنى: ثم كان وقتَ اقتحامِه العقبةَ من الذين آمنوا. وقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} معناه: على طاعةِ اللَّهِ وبلائِه وقضائِه وعن الشهواتِ والمعاصِي، و{المَرْحَمَةُ} قال ابن عباس: كلُّ ما يؤَدِّي إلى رحمةِ اللَّهِ تعالى، وقال آخرون: هو التراحمُ والتعاطُفُ بينَ الناسِ، وفي ذلك قِوَامُ الناس؛ ولو لم يتراحموا جُمْلَةً لَهَلَكُوا، و{الميمنة}، فيما رُوِيَ عن يمينِ العرشِ وهو موضِع الجنَّةِ، ومكانُ المرحومِينَ من الناس، و{المشئمة}: الجانب الأشْأَمُ وهُو الأَيْسَرُ؛ وفيه جهنَّم؛ وهو طريقُ المعذبينَ، و{مُّؤْصَدَةُ} معْناه: مُطْبَقَة مغلقة.
|